فصل: تفسير الآيات (1- 4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (7- 14):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
الاستفهام هنا، مراد به النفي، أي لا أحد أظلم ممن افترى على اللّه الكذب.
إنه أظلم الظالمين، لأنه يفترى على اللّه، في حال يدعى فيها إلى الإسلام، وتقوم بين يديه أمارات الحق، وشواهد الهدى، فيفترى الكذب، أي يختلقه اختلاقا، ثم يرمى بهذا الكذب المفترى في وجه الحق، بلا حياء.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} هو تعقيب على هذه الجريمة التي يقترفها هؤلاء المجرمون، الذين يبهتون الحق، ويكابرون في إنكاره.
إنهم أظلم الظالمين، لأنهم ضلّوا عن الحق لم يقبلوه، ثم إنهم إذ لم يقبلوا هذا الحق الذي دعوا إليه- رجموه بالزور والبهتان.. فهم ظالمون، ظالمون.. {واللّه لا يهدى القوم الظالمين} الذين تأبى طبائعهم أن تستجيب للهدى، وتسكن إليه.
والقوم الظالمون هنا، هم اليهود، الذين رفضوا دعوة السيد المسيح، والذين لم يقفوا عند حدّ الرفض، بل بهتوه، وكذبوه.. وإنه كما دعا المسيح آباء هؤلاء اليهود إلى الإسلام الذي هو دين اللّه فكذبوه، وأنكروا عليه دعوته- كذلك فعل أبناؤهم هؤلاء، الذين دعاهم محمد- عليه السلام- إلى الإسلام، فافتروا الكذب، وأنكروا أنه رسول اللّه.. وكما ضلّ الآباء، كذلك ضل الأبناء.
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}.
نور اللّه، هو الحق الذي يحمله رسل اللّه، ويبشرون به في الناس.
أي أن هؤلاء القوم الظالمين يريدون بافترائهم الكذب، وتعمدهم له- إطفاء نور اللّه، وهو القرآن الكريم، وما يدعو إليه.
واللام في قوله تعالى: {ليطفئوا} هي لام العاقبة، أي يريدون الافتراء ويحملون أنفسهم عليه، ليطفئوا نور اللّه بأفواههم.. فافتراؤهم الكذب لغاية يريدونها، هي لإطفاء نور اللّه.. وعلى هذا المعنى جاء قول قيس بن الملوح مجنون ليلى:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ** تمثّل لى ليلى بكل سبيل

أي أريد البعد عنها، والانفراد بنفسي في الخلوات، لكى أنسى ذكرها، ولكن وجودها يصحبنى حيثما أكون.
وفى قوله تعالى: {بأفواههم} إشارة إلى الكذب والافتراء الذي تتفوه به أفواههم، فكأن هذه الكلمات الآثمة التي تخرج من أفواههم- هي نفثات تخرج من صدور مغيظة محنقة، ينفخون بها في هذا المصباح الهادي، ليطفئوا نوره.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}.
هو تعقيب على موقف هؤلاء المفترين من نور اللّه، ومن دينه الذي يدعو إليه رسول اللّه.
فهذا النور سوف يبسط سلطانه على الآفاق كلها، وسيبلغ به اللّه سبحانه وتعالى تمام كماله، وإن كره الكافرون هذا، وإن احترقت أكبادهم حسرة وكمدا، لما سيبلغه هذا الدّين من قوة وسلطان.. وتمام نور اللّه إنما يكون حين يطلع على آفاق الأرض جميعها، ويبسط سلطانه على كل صقع من أصقاعها. وهذا يعنى أن الإسلام سيكون يوما، هو دين اللّه على هذه الأرض.. فذلك هو تمام نور اللّه الذي وعد اللّه سبحانه وتعالى به.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى، هو الذي أرسل رسوله محمدا بالهدى، ودين الحق، ليظهر هذا الدين، ويعليه على الدين كله، وهو ما سبقه من أديان، ولو كره المشركون هذا الظهور لدين اللّه.
وفى هذه الآية وعد من اللّه سبحانه وتعالى بنصر هذا الدين، وبسط سلطانه على كل دين، لأنه الحق، الذي بلغ بالدين غاية كماله وتمامه.. إنه نور اللّه، واللّه متم نوره.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ}.
هو نداء من اللّه سبحانه وتعالى إلى هؤلاء المؤمنين، الذين استجابوا للّه ولرسوله، ودانوا بهذا الدين، وهو دعوة لهم إلى تجارة تنجيهم من عذاب أليم في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
هو بيان لهذه التجارة التي دعا اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين إليها، وأمرهم بالاتجار فيها.. وهى الإيمان باللّه وبرسول اللّه، والجهاد في سبيل اللّه بالأموال والأنفس.
ففى هذه التجارة الربح العظيم، والخير العميم، الذي يقع لأيدى المتجرين بها، لو كانوا يعلمون ما يكون لهم من ورائها، من خير.
ودعوة المؤمنين إلى الإيمان باللّه ورسوله، هو دعوة إلى إيمان خالص من الريب، مبرأ من الشرك.. فليس كل من دخل في الإيمان كان مؤمنا حقّا.
وسمّى هذا الإيمان، وهذا الجهاد، تجارة، لأن التجارة عطاء وأخذ، وأعيان تقدّم للبيع، وثمن يؤخذ في مقابل هذه الأعيان.. والمؤمنون باللّه ورسوله، يقدمون أموالا وأنفسا، ويأخذون في مقابل ما يقدمون ما يجزيهم اللّه سبحانه وتعالى عليه، من رضوان، وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [111: التوبة].
وقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
هو جواب لشرط مقدّر دلّ عليه ما في الآية السابقة من الدعوة إلى الإيمان باللّه ورسوله، والجهاد في سبيله.. أي إن استجبتم لهذه الدعوة التي دعيتم إليها- أيها المؤمنون- يغفر اللّه لكم ذنوبكم. ويسترها عليكم، فلا ترونها بعد أن محاها اللّه، وطهّركم منها بمغفرته، ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار، وينزلكم فيها مساكن طيبة، تطيب لكم الحياة فيها، فلا تتحولون عنها أبدا.. وذلك هو الفوز العظيم، الذي لا يعدله فوز، فيما عرفتم في الحياة الدنيا.
قوله تعالى: {وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي ولكم مع هذا الفوز العظيم بجنات النعيم في الآخرة- رغيبة أخرى تحبونها، وتتطلعون إليها، تلك هي ما ستلقون من نصر من اللّه، ومن فتح قريب، بما يفتح اللّه لكم في هذه الدنيا من فتوح، وما يمكّن لكم من نصر على أعدائكم.. وقد حقق اللّه للمؤمنين ما وعدهم به من نصر وفتح، فقد انتصروا على أعدائهم من المشركين وللكافرين، وفتحوا معاقل الشرك، ودانت لهم مواطن المشركين، فيما وقع لهؤلاء المؤمنين من فتح خيبر، ومن إجلاء اليهود من المدينة، ومن فتح مكة.. ثم ما تلا ذلك من فتوح لمملكتى الفرس والروم.
وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.
هو أمر سماوى من اللّه سبحانه وتعالى للنبى الكريم أن يبشر المؤمنين بهذا الوعد الذي وعدهم اللّه إياه، وأن يكشف لهم عن مواقع هذا النصر والفتح القريب.. وقد بشّر النبي الكريم أصحابه بما سيلقاهم على طريق الإسلام من نصر وفتح.. وفى هذا ما يدخل الطمأنينة والرضاء على قلوب المؤمنين، ويمدّهم بأمداد السكينة والصبر على ما كانوا يعانون من شدة وضيق، وما كانوا يلقون من كيد وبلاء.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ}.
هو دعوة أخرى إلى المؤمنين أن يكونوا أنصار اللّه، بأن يخلصوا وجودهم كلّه للّه.. والصورة المثلى لهذا الإيمان، هو إيمان الحواريين، الذين كانوا أول المؤمنين بالمسيح، وهم اثنا عشر حواريّا.. فقد سبقوا إلى الإيمان، واحتملوا الصدمة الأولى التي صدم بها اليهود دعوة المسيح.. ومطلوب من هؤلاء المؤمنين السابقين من أتباع محمد، أن يكونوا في إيمانهم على هذا الإيمان، يحتملون فيه ما احتمل الحواريون من ألوان الكيد والمكر، ومن صنوف البلاء والشدة.
وأنصار اللّه، هم الذين ينصرون دين اللّه، ويبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيله.
وقوله تعالى: {فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ}.
أي أنه بهؤلاء الحواريين الذين قاموا لنصر دين اللّه، وبجهادهم في سبيله- قد آمنت طائفة من بنى إسرائيل، وكفرت طائفة، كما كان الحال في مبدأ الدعوة الإسلامية، حيث آمن بإيمان الذين سبقوا إلى الإيمان، وجاهدوا في سبيل اللّه- آمن بعض المشركين، وكفر بعض.
ثم كانت الخاتمة أن اندحر الذين كفروا بالمسيح، وأصبحت للمؤمنين به الغلبة عليهم، إلى يوم القيامة، كما يقول اللّه تعالى: {يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} [55: آل عمران].. وهكذا ظل اليهود الذين كفروا بالمسيح تحت يد المؤمنين منذ المسيح إلى اليوم، وإلى ما بعد اليوم.. سواء منهم المؤمنون بالمسيح الذين آمنوا به إلى ظهور النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- أو المؤمنون الذين آمنوا برسول اللّه، فهم مؤمنون كذلك بالمسيح.. وهكذا ينتصر الذين آمنوا برسول اللّه على الذين كفروا به، وتكون لهم اليد العليا عليهم أبد الدهر... إلى يوم القيامة.

.سورة الجمعة:

نزولها: مدنية.
عدد آياتها: إحدى عشرة.. آية.
عدد كلماتها: مائة وثمانون.. كلمة.
عدد حروفها: سبعمائة وعشرون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
جاء في سورة {الصف} السابقة على هذه السورة، قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}.
ثم جاء في سورة {الجمعة}: هذه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
فكان ذلك تصديقا لهذه البشرى، وتحقيقا لما أخبر به المسيح، من مجيء رسول من بعده اسمه أحمد.. فهذا الرسول، هو هذا النبي الذي بعثه اللّه في الأميين، وهو محمد صلوات اللّه وسلامه عليه- فناسب ذلك أن تجيء سورة {الجمعة} على هذا الترتيب في المصحف، آخذة مكانها بعد سورة {الصف}.
وفى هذا شاهد من شواهد كثيرة، تقطع بأن ترتيب السور في المصحف، توفيقى من عند اللّه، أشبه بترتيب الآيات في السور.
بسم اللّه الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 4):

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.
أي يسجد للّه- تعظيما، وولاء، وتمجيدا- كل من في السموات والأرض، وإن أبى هؤلاء الكافرون والمشركون أن يكونوا في الساجدين.
فإنهم- إن ظنوا أنهم يملكون من أنفسهم أن يخرجوا عن هذا المقام الذي ينتظم الوجود كله في محراب التسبيح بحمد اللّه- فهم واهمون، لأنهم في قبضة اللّه، وفى محيط سلطانه، وهم بهذا خاضعون للّه كرها، وإن لم يخضعوا له طوعا.
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [15: الرعد].
والملك: هو صاحب الملك، المتصرف فيه كيف يشاء.
والقدوس: الطاهر، المبرأ من كل نقص.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
هذا التسبيح الذي تسبح به السموات والأرض للّه رب العالمين، هو وإن كان دائما لا ينقطع، إلا أنه هنا تسبيح خاص في مواجهة هذه النعمة العظيمة التي أنعم اللّه بها على أهل الأرض، وهى بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام بالهدى ودين الحق.
والأميون هم العرب، وسمّوا أميين، لأنه لم يكن لهم كتاب سماوى، وكان اليهود يطلقون على جميع الأمم لفظ الأميين بالإضافة إليهم هم.. يريدون بهذا أن يمتازوا على الناس، بأنهم هم الذين خاطبتهم السماء، وبعثت فيهم الرسل، وأنزلت عليهم الكتب.. أما غيرهم من سائر الأمم فلم يكونوا أهلا لأن يخاطبوا من اللّه، وأن يتلقوا رسالاته.. وبهذا صحّ في زعمهم أن يدّعوا هذه الدعوة الضالة، وهى أنهم شعب اللّه المختار.. فلقد كانت هذه الدعوى شؤما وبلاء عليهم، إذ عزلتهم عن المجتمع الإنسانى، وأقامتهم في الحياة الإنسانية مقاما مضطربا، لا يلقاهم الناس، ولا يلقون هم الناس، إلّا على عداوة وجفاء.
ففى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} امتنان على الأمة العربية، بهذا الفضل الذي ساقه اللّه سبحانه وتعالى إليهم، وردّ على اليهود، وإبطال لدعواهم بأن اللّه اختارهم على العالمين.. واختصهم بفضله وإحسانه.
فالأمية التي وصف بها العرب هنا هي أمية من نوع خاص، وهى أمية من لا كتاب لهم من عند اللّه. وإن كان هذا لا يمنع من تفشّى الأمية فيهم، وهى أمية الجهل بالكتابة والقراءة. وذلك أن الدّين كان هو الباعث الأول على العلم، وعلى تعلم القراءة والكتابة، وأن أصحاب الكتب السماوية هم الذين كانوا يقبلون على العلم، وعلى مدارسة الكتب السماوية وما يتصل بها.
وفى قوله تعالى: {رَسُولًا مِنْهُمْ} إشارة إلى أن هذا الرسول الذي بعثه اللّه سبحانه وتعالى إلى العرب، كان واحدا منهم، أي من هؤلاء الأميين، وليس من أهل الكتاب.. وهذا يعنى أن هؤلاء الأميين هم أهل لأن تختار منهم رسل اللّه، كما هم أهل لأن يتلقوا رسالات اللّه، وتنزل إليهم كتب اللّه.
وقوله تعالى: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ} هو صفة للرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، تبيّن محامل رسالته إلى العرب، ومنهج دعوته لهم.. فهو يتلو عليهم آيات اللّه، أي يسمعهم إياها، ويلقيها على أسماعهم مشافهة منه.. إنه هو الذي يتولى تبليغ رسالة ربه بنفسه، لا بوساطة كتب، أو رسل.. فما دام هو بين قومه، فهو الذي يلقى الناس برسالة ربه، وينقلها إليهم كما تلقاها وحيا من السماء، وهو بهذه التلاوة لآيات اللّه، إنما يريد أن يزكّى قومه، أي يطهرهم من الشرك، ومن ضلالات الجاهلية وأرجاسها.
وهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- {يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ} أي أي يبين لهم ما في كتاب اللّه من شرائع وأحكام، كما يقول اللّه سبحانه: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ويعلمهم كذلك {الحكمة} وهى السنّة التي يبين بها الرسول ما في كتاب اللّه.. وسميت السّنة حكمة، لأنها مستفادة من كتاب اللّه، ومن النظر الملهم في آياته وكلماته.. فليس كل ناظر في كتاب اللّه قادرا على أن يتلقى الحكمة عنه.. وإنما رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- هو الذي أخذ الحكمة كلّها من كتاب اللّه، بما أراه اللّه.
وفى هذا دعوة للعرب وللمؤمنين بهذا الدين، أن يتعلموا للكتاب والحكمة، وذلك بمدراسة كتاب اللّه، إذ كان هو الكتاب الجامع لكل ما في الكتب، من سماوية وغير سماوية، فمن جعل همّه له، ووجه عقله وقلبه إليه، أصاب العلم الجامع، والحكمة المشرقة، وهذا من شأنه أن يجعل من أمة الإسلام- لو أنهم استجابوا لدعوة اللّه هذه- موطن العلم، ومعدن الحكمة، وأن تكون لهم أستاذية الإنسانية في العلم وفى الحكمة.
وقوله تعالى: {وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} هو بيان لحال العرب، حين جاءهم الرسول الكريم، يعلمهم الكتاب والحكمة. فقد كانوا قبله في ضلال غليظ، وفى عمى مطبق، ومع ذلك استطاع هذا النور السماوي الذي حمله الرسول إليهم- أن يفتح به عيونا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فأبصروا من عمّى، وسمعوا من صمم، وفقهوا من جهل، وأصبحوا علماء حكماء.. وهذا يعنى أن الاتصال بكتاب اللّه، من شأنه أن يفيد منه كل إنسان، ولو كان أبعد الناس عن العلم والحكمة، شأنه في هذا شأن الغيث، يبعث الحياة حيث كان موقعه، في خصب أو جدب.
قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
هو معطوف على {الْأُمِّيِّينَ} أي هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم، أي من العرب، وفى آخرين من الأميين، من غير العرب، وهم سائر الأمم الأخرى.
وهذا يعنى أن رسالة الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه- وإن كانت للعرب أولا، فإن لغيرهم فيها نصيبهم منها، فهى رسالة عامة شاملة لكل الناس.
ثم إن هذا يشير من جهة أخرى إلى أن اليهود لا نصيب لهم في هذه الرسالة لأنهم ليسوا من الأميين.. وهذا ما كشفت عنه الأيام، فقد دخل الناس الإسلام من كل أمة وجنس، وأما اليهود فلم يدخله منهم إلا نفر قليل.. على نفاق، وعلى كيد للإسلام.. فا آمن أحد منهم بالإسلام- مذ كان إلى اليوم- إيمانا خالصا من هوى، أو مبرّأ من غرض.
وفى قوله تعالى: {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}.
إشارة بظهر الغيب إلى هؤلاء الآخرين الذين سيلحقون بالعرب في الدخول في الإسلام، والذين لم يكونوا قد دخلوا بعد، عند نزول هذه الآية.
وقد روى أن بعض صحابة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- سألوه عن هؤلاء الآخرين، وكان فيهم سلمان الفارسىّ، فوضع صلوات اللّه وسلامه عليه، يده على سلمان، ثم قال: {لو كان الإيمان عند الثريّا لتناوله رجال من هؤلاء}.
والإشارة هنا هي للفرس، قوم سلمان الفارسي، والمراد بكون الإيمان عند الثريّا وتناول الفرس له، أن الإسلام سيدخل فيه من كان بعيدا عن موطن الدعوة بعد الثريّا، وهذا يعنى امتداد رقعة الإسلام، وامتداد سلطانه في أطراف الدنيا.
وهذا من أنباء الغيب، التي أوحاها اللّه إلى النبي، فقد دخلت في الإسلام طوائف وجماعات من جميع الأمم.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
إشارة إلى سلطان اللّه الغالب، وأنه سينصر هذا الدين، ويعزّه، باجتماع الناس إليه من جميع الأمم والأجناس، وأن ذلك إنما يكون عن حكمة الحكيم العليم، فيدخل في هذا الدين من شاء له الهدى والنجاة.
قوله تعالى: {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
{ذلك} إشارة إلى بعث الرسول الكريم إلى الأميين من العرب، وهذا من فضل اللّه، الذي يؤتيه من يشاء من عباده، واللّه ذو الفضل العظيم، الذي يسع فضله الناس جميعا، وأنه إذا أصاب فضله قوما، فليس بالمحجوز عن غيرهم.